فصل: تفسير الآيات (199- 202):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (189- 195):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
{يسألونك عن الأهلَّة} يسأل معاذ بن جبلٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة القمر ونقصانه، فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة} وهي جمع هلال {قل هي مواقيت للناس والحج} أخبر الله عنه أنَّ الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات النَّاس في حجِّهم ومَحِلِّ دُيونِهم، وعِدَدِ نسائهم، وأجور أُجرائهم، ومُدَد حواملهم، وغير ذلك {وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها} كان الرَّجل في الجاهليَّة إذا أحرم نقب من بيته نقباً من مؤخره يدخل فيه ويخرج، فأمرهم الله بترك سنَّة الجاهليَّة، وأعلمهم أنَّ ذلك ليس ببرٍّ {ولكن البرَّ} برُّ {من اتقى} مخالفةَ الله {وأتوا البيوت من أبوابها...} الآية.
{وقاتلوا في سبيل الله...} الآية. نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صدَّه المشركون عن البيت، صالحهم على أن يرجع عامة القابل ويُخَلُّوا له مكَّة ثلاثة أيَّام، فلمَّا كان العام القابل تجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ وأن يصدُّوهم عن البيت ويقاتلوهم، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشَّهر الحرام في الحرم، فأنزل الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} أَيْ: في دين الله وطاعته {الذين يقاتلونكم} يعني: قريشاً {ولا تعتدوا} ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال.
{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وجدتموهم وأخذتموهم {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} يعني: من مكَّة {والفتنة أشدّ من القتل} يعني: وشركُهم بالله تعالى أعظمُ من قتلكم إيَّاهم في الحرم {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} نُهوا عن ابتدائهم بقتلٍ أو قتالٍ حتى يبتدئ المشركون {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أَيْ: إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة، ثم بيَّن أنهم إن انتهوا، أَيْ: كفُّوا عن الشِّرك والكفر والقتال وأسلموا {فإنَّ الله غفور رحيم} أَيْ: يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل، وهو منعمٌ عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم.
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أَيْ: شركٌ. يعني: قاتلوهم حتى يُسلموا، وليس يُقبل من المشرك الوثنيِّ جزيةٌ {ويكون الدين} أَيْ: الطَّاعة والعبادة {لله} وحده فلا يُعبد دونه شيءٌ {فإن انتهوا} عن الكفر {فلا عدوان} أَيْ: فلا قتل ولا نهب {إلاَّ على الظالمين} والكافرين.
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} أَيْ: إن قاتلوكم في الشَّهر الحرام فقاتلوهم في مثله {والحرمات قصاص} أَي: إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك، أَعلمَ الله سبحانه أنَّه لا يكون للمسلمين أنْ ينتهكوها على سبيل الابتداء، ولكن على سبيل القصاص، وهو معنى قوله: {فمن اعتدى عليكم...} الآية. {وأنفقوا في سبيل الله} في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ولا تُمسكوا عن الإِنفاق في الجهاد {وأحسنوا} أَيْ: الظنَّ بالله تعالى في الثَّواب والإِخلاف عليكم.

.تفسير الآية رقم (196):

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
{وأتموا الحج والعمرة لله} بمناسكهما وحدودهما وسننهما، وتأدية كلِّ ما فيهما {فإن أحصرتم} حُبستم ومُنعتم دون تمامهما {فما استيسر} فواجبٌ عليكم ما تيسَّر {من الهدي} وهو ما يُهدى إلى بيت الله سبحانه، أعلاه بدنةٌ، وأوسطه بقرة، وأدناه شاةٌ، فعليه ما تيسَّر من هذه الأجناس {ولا تحلقوا رؤوسكم} أَيْ: لا تَحِلُّوا من إحرامكم {حتى يبلغ الهدي محلَّه} حتى يُنحر الهدي بمكَّة في بعض الأقوال، وهو مذهب أهل العراق، وفي قول غيرهم: مَحِلُّه حيث يَحِلُّ ذبحه ونحره، وهو حيث أُحصر، وهو مذهب الشَّافعي {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه} يعني الهوام تقع في الشَّعر وتكثر فحلق {ففديةٌ من صيامٍ} وهو صيام ثلاثة أيَّام {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين. لكلِّ مسكينٍ مُدَّان {أو نسك} ذبيحةٍ {فإذا أمنتم} أَيْ: من العدوِّ، أو كان حجٌّ ليس فيه خوفٌ من عدوٍّ {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} أيْ: قدم مكَّة مُحرماً واعتمر في أشهر الحجِّ، وأقام حلالاً بمكَّة حتى يُنشئ منها الحجَّ عامَه ذلك، واستمتع بمحظورات الإحرام؛ لأنَّه حلَّ بالعمرة، فمن فعل هذا {ف} عليه {ما استيسر من الهدي فمن لم يجد} ثمن الهدي {فصيام ثلاثة أيام في} أشهر {الحج وسبعة إذا رجعتم} أَيْ: بعد الفراغ من الحجِّ {تلك عشرة كاملة ذلك} أَيْ: ذلك الفرض الذي أُمرنا به من الهدي أو الصِّيام {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} أَيْ: لمَنْ لم يكن من أهل مكَّة.

.تفسير الآيات (197- 198):

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
{الحج أشهر} أًيْ: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ {معلوماتٌ} مُوقَّتةٌ معيَّنةٌ، وهي شوال وذو القعدة وتسعُ من ذي الحجَّة {فمن فرض} أوجب على نفسه {فيهنَّ الحجَّ} بالإحرام والتَّلبية {فلا رفث} فلا جِماعَ {ولا فسوق} ولا معاصي {ولا جدال} وهو أَنْ يُجادلَ صاحبه حتى يُغضبه، والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا {في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله} أَيْ: يُجازيكم به الله العالم {وتزوَّدوا} نزلت في قومٍ كانوا يحجُّون بلا زادٍ ويقولون: نحن متوكِّلون، ثمَّ كانوا يسألون النَّاس وربَّما ظلموهم وغصبوهم، فأمرهم الله أَنْ يتزوَّدوا فقال: {وتزوَّدوا} ما تتبلَّغون به {فإن خير الزاد التقوى} يعني: ما تكفُّون به وجوهكم عن السُّؤال وأنفسكم عن الظُّلم.
{ليس عليكم جناح...} الآية. كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ ولا جَمَّالٍ، فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} أَيْ: رزقاً بالتجِّارة في الحجِّ {فإذا أفضتم} أَيْ: دفعتم وانصرفتم من {عرفات فاذكروا الله} بالدُّعاء والتَّلبية {عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} أَيْ: ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم، أَيْ: يكون جزاءً لهدايته إيَّاكم {وإن كنتم من قبله} أَيْ: وما كنتم من قبل هُدَاه إلاَّ ضالِّين.

.تفسير الآيات (199- 202):

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
{ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس} يعني: العرب وعامِّة النَّاس إلاَّ قريشاً، وذلك أنَّهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنَّما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفاتٍ، كما يقف سائر النَّاس حتى تكون الإفاضة معهم منها. {فإذا قضيتم مناسككم} أَيْ: فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحجِّ {فاذكروا الله كذكركم آباءَكم} كانت العرب إذا فرغوا من حجِّهم ذكروا مفاخر آبائهم، فأمرهم الله عزَّ وجلَّ بذكره {أو أشدَّ ذكراً} يعني: وأشدَّ ذكراً {فمن الناس...} الآية، وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم، ولا يسألون حظَّاً في الآخرة؛ لأَنهم لم يكونوا مؤمنين بها، والمسلون يسألون الحظَّ في الدُّنيا والآخرة، وهو قوله: {ومنهم مَنْ يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة...} الآية. ومعنى: {في الدنيا حسنة}: العمل بما يرضي الله، {وفي الآخرة حسنة}: الجنة.
{أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا} أَيْ: ثوابُ ما عملوا {والله سريعُ الحساب} مع هؤلاء؛ لأنَّه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم.

.تفسير الآيات (203- 206):

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}
{واذكروا الله في أيام معدودات} يعني: التَّكبير أدبار الصَّلوات في أيام التَّشريق {فمن تعجَّل في يومين} من أيام التَّشريق فنفر في اليوم الثّاني من مِنىً {فلا إثم عليه} في تعجُّله، {ومن تأخر} عن النَّفر إلى اليوم الثالث {فلا إثم عليه} في تأخُّره {لمن اتقى} أَيْ: طرحُ المأثم يكون لمن اتَّقى في حجِّه تضييعَ شيءٍ ممَّا حدَّه الله تعالى.
{ومن الناس مَن يعجبك قوله...} الآية. يعني: الأخنس بن شريق، وكان منافقاً حلو الكلام، حسن العلانيَة سيِّئ السَّريرة، وقوله: {في الحياة الدنيا} لأنَّ قوله إنَّما يعجب النَّاس في الحياة الدُّنيا، ولا ثواب له عليه في الآخرة {ويشهد الله على ما في قلبه} لأنَّه كان يقول للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ، إنِّي بك لمؤمنٌ، ولك محبٌّ {وهو ألدُّ الخصام} أَيْ: شديد الخصومة، وكان جَدِلاً بالباطل.
{وإذا تولى سعى في الأرض...} الآية، وذلك أنَّه رجع إلى مكَّة، فمرَّ بزرعٍ وحُمُرٍ للمسلمين، فأحرق الزَّرع وعقر الحُمُر، فهو قوله: {ويهلك الحرث والنسل} أَيْ: نسل الدَّوابِّ.
{وإذا قيل له اتق الله} وإذا قيل له: مهلاً مهلاً {أخذته العزَّةُ بالإِثم} حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على الفعل بالإِثم {فحسبه جهنم} كافيه الجحيم جزاءً له {ولبئس المهاد} ولبئس المقرُّ جهنَّم.

.تفسير الآيات (207- 212):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
{ومن الناس مَنْ يشري} أَيْ: يبيع {نفسه} يعني: يبذلها لأوامر الله تعالى {ابتغاء مرضاة الله} لطلب رضا الله. نزلت في صهيب الرُّوميِّ.
{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْمِ} أَيْ: في الإسلام {كافة} أيْ: جميعاً، أيْ: في جميع شرائعه. نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت، وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك، وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أيْ: آثاره ونزغاته {إنه لكم عدوٌّ مبين}.
{فإن زللتم} تنحَّيتم عن القصد بتحريم السَّبْت ولحوم الإِبل {من بعد ما جاءتكم البينات} أَيْ: القرآن {فاعلموا أنَّ الله عزيز} في نقمته لا تعجزونه ولا يُعجزه شيءٌ {حكيم} فيما شرع لكم من دينه.
{هل ينظرون} أَيْ: هل ينتظرون. يعني: التَّاركين الدُّخول في الإِسلام، و{هل} استفهامٌ معناه النَّفي، أيْ: ما ينتظر هؤلاء في الآخرة {إلاَّ أن يأتيهم} عذاب {اللَّهُ في ظلل من الغمام} والظُّلَل جمع: ظُلَّة، وهي كلُّ ما أظلَّك، والمعنى: إنَّ العذاب يأتي فيها، ويكون أهول {والملائكة} أَيْ: الملائكةُ الذين وُكِّلوا بتعذيبهم {وقضي الأمر} فُرغ لهم ممَّا يوعدون بأنْ قُدِّر ذلك عليهم {وإلى الله تُرجع الأمور} يعني: في الجزاء من الثَّواب والعقاب.
{سل بني إسرائيل} سؤال توبيخ وتبكيتٍ وتقريعٍ كما يُقال: سله كم وعظته فلم يقبل {كم آتيناهم من آية بينةً} من فلق البحر، وإنجائهم من عدوِّهم، وإنزال المنِّ والسًّلوى، وغير ذلك {ومَنْ يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته} يعني: ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمِّدٍ عليه السَّلام، فبدَّلوه وغيَّروه.
{زين للذين كفروا} أَيْ: رؤساء اليهود {الحياة الدُّنيا} فهي هِمَّتهم وطِلبتهم، فهم لا يريدون غيرها {ويسخرون من الذين آمنوا} أَيْ: فقراء المهاجرين {والذين اتقوا} الشِّرك وهم هؤلاء الفقراء {فوقهم يوم القيامة} لأنَّهم في الجنَّة، وهي عاليةٌ، والكافرين في النَّار، وهي هاويةٌ {والله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب} يريد: إِنَّ أموال قريظة والنَّضير تصيرُ إليهم بلا حسابٍ ولا قتالٍ، بل بأسهل شيءٍ وأيسره.

.تفسير الآيات (213- 215):

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
{كان الناس} على عهد إبراهيم عليه السَّلام {أمة واحدة} كفاراً كلَّهم {فبعث الله النبيين} إبراهيم وغيره {وأنزل معهم الكتاب} والكتابُ اسم الجنس {بالحق} بالعدل والصِّدق {ليحكم بين الناس} أَيْ: الكتابُ {فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً} أَيْ: وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب؛ لأنَّ المشركين- وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام- فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي، والحسد، ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمَّد عليه السَّلام، كما أتت اليهود، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه {فهدى الله الذين آمنوا} {ل} معرفة {ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} بعلمه وإرادته فيهم.
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...} الآية. نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتدَّ الضُّرُّ عليهم؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ، فقال الله لهم أَيْ لهؤلاء المهاجرين: أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة من غير بلاءٍ ولا مكروهٍ {ولما يأتكم} أَيْ: ولم يأتكم {مثل الذين خلوا} أَيْ: مثل محنة الذين مضوا {من قبلكم} أَيْ: ولم يُصبكم مثل الذي أصابهم، فتصبروا كما صبروا {مَسَّتْهُم البأساء} الشدَّة {والضرَّاء} المرض والجوع {وزلزلوا} أَيْ: حُرِّكوا بأنواع البلاء {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} أَيْ: حين استبطؤوا النَّصر، فقال الله: {ألا إنَّ نصر الله قريب} أَيْ: أنا ناصر أوليائي لا محالة.
{يسألونك ماذا ينفقون} نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخاً كبيراً وعنده مالٌ عظيمٌ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعُها؟ فنزلت هذه الآية. قال كثيرٌ من المفسرين: هذا كان قبل فرض الزكاة، فلمَّا فُرضت الزَّكاة نسخت الزَّكاة هذه الآية.